جمعة… خير خلف لخير سلف
معزوفة حنانٍ تتسلّق جدار القلب كالحبلة في دار عوضة
في دار عوضة، حين غابت أمي جمعة بنت مسفر الدحية،
تسللت الوحشة إلى الأركان… وظننا أن الحنان قد غادر،
لكن الله ساق إلينا جمعة أخرى… جمعة بنت بيبي.
لم تأتِ بديلاً… بل جاءت امتدادًا لذلك النور الذي لا ينطفئ.
جاءت تحمل الاسم… وتحمل معه الروح نفسها، والدفء ذاته،
وحنانًا جديدًا يُشبه الحنين القديم.
ما فرّقت يومًا بين أبنائها وأبناء عوضة،
بل كان لنا معها نسبٌ من القلب… نحن أبناء قلبها.
حين قرر خالي حسن أن يسكن معنا،
ما قالت: “مالي ومال أبناء الناس؟”
بل دخلت بابتسامة رضا، وبروحٍ واسعة،
واحتضنتنا كأننا منها… بل كأننا كلُّها.
وحين كان خالي يُربّي بأسلوبه الحازم،
كانت هي الركن الآمن…
تهمس لي بدفء:
“أنا معك يا أحمد… لا تخف، الحنان لا يرحل.”
واليوم،
كل يوم جمعة، أزورها في الرياض،
تُشرق ملامحها ما إن تراني،
تتهلل أساريرها، ويتفتح وجهها كما تتفتح أوراق الحبلة على جدار قديم.
تُخرج من منديلها القماشي القريب من قلبها نقودًا جمعتها لي بمحبة،
وتهمس:
“خذها يا أحمد… هذه لك، كما كنت صغيرًا.”
ولا تنسَ اللوز!
تجمعه بيديها، وتنتقيه من أجلي،
وتضعه لي جانبًا،
كأنها تحفظ لي الطفولة في حبة، والماضي في قشرة.
خالتي جمعة لم تتابع ترميم دار عوضة كمتفرجة…
بل كانت تعيش كل حجر يُعاد إلى مكانه،
كل خشبة تُصقل، كل نافذة تُفتح من جديد.
قالت لي:
“ازرع لي حبلة عنب هنا… أحب أن أراها تتدلّى من الجدار.”
“وشجرة كمثراء هناك… تعجبني أوراقها إذا رقصت في الريح.”
فزرعت… وسقيت… وصورت…
وكنت أبعث لها كل لقطة،
وهي تتابع بنبضٍ من لهفة،
كأنها كانت تسكن في الشجرة، وفي الجدار، وفي الصورة.
ولم تكتفِ بالمشاعر…
بل جمعت من نفائس دار عوضة القديمة ما لم أكن لأفكر فيه،
وأهدتني إياها بيدٍ ترتجف من الشوق،
وقالت:
“اعرضها في الدار… هذه من ريح الماضي، ومن عزّنا الجميل.”
خالتي جمعة…
ما زلتِ تعطين،
ما زلتِ تحبين،
ما زلتِ تزرعين فينا دفئًا لا يذبل.
أسأل الله أن يمدّك بالصحة والعافية،
ويجزيك عنّا، وعن دار عوضة، وعن اللوز، والحبلة، والمنديل…
خير الجزاء.