حين مدّ يده للحياة.. ارتقى شهيدًا
قصة وفاء وشهادة في دار عوضة
في قلب الأطاولة، بين بيوت الحجر الصامدة، وُلد وترعرع عوضة بن أحمد بن عوضة الزهراني، رجلٌ نسجَ سمعته من الصدق والمروءة والإقدام. لم يكن وجهه يغيب عن مجالس الناس، ولا اسمه يغيب عن حكاياتهم، فقد عرفوه قريبًا من الكبير، عونًا للصغير، وملاذًا في الملمات.
تميّز عوضة بابتسامة دائمة، وحسّ مرح يُبهج من حوله، لكنه كان إذا جدّ الجدّ، أصبحَ رمزًا للمسؤولية والجدية والانضباط. عمل في مكتب الإشراف التربوي في الأطاولة ، وتنقّل في ميادين العطاء والبذل متنقلاً بين مدن المملكة .
وهو من أوائل أبناء الأطاولة الذين تعلموا قيادة السيارة، فكان يسخّرها لنقل الحاجات، وإيصال المعونة، والتوسّط للناس في قضاء شؤونهم.
كان بارًا بوالدته، وموصولًا بأخواله آل سعدان، لا يقطع ودّهم في الأعياد والمناسبات، ويُحيّي بيوتهم بتحيته الشهيرة: “سلام يا بيت الخال”. وكان حاضرًا في حياة من حوله كأنه الأخ والصديق لكل من عرفه.
لكن خاتمته، كانت أعظم من كل سيرته…
في مساء أحد الأيام، عاد من عمله، وأراد أن يستريح، وبينما يهمّ بخلع ثوبه، سمع صوت استغاثة ينبعث من بئرٍ قريبة تُعرف بـ”بئر الحسين” في الجهة الغربية من الأطاولة. توجّه فورًا دون تردد، سبَق الجميع إلى الموقع، ليكتشف أن جاره معيض بن عبدالله بن مقنع وابنه محمد قد أغمي عليهما داخل البئر، بعدما استنشقا دخان مضخة البنزين أثناء محاولة استخراج الماء.
اندفع عوضة بن أحمد بلا تفكير، لم ينتظر حبلًا، لم يحسب خطرًا، نزل سريعًا إلى البئر، وبكل شجاعة ربط الجار وابنه بالحبل، وثبّتهما على السقالة الخشبية الضيقة. وبينما هو يثبت جسديهما، أصابه الإعياء، وخنقه الكربون، فغاب عن الوعي، وسقط في الماء شهيدًا.
نجا معيض وابنه، وخرج الناس يحملونهم بسلام، أما عوضة، فقد طال انتظار انتشال جثمانه حتى قبيل الغروب، وقد فاضت روحه طاهرة كفعله النبيل.
حزنت الأطاولة كلها عليه، ورثاه الشعراء، وبكاه الصغار قبل الكبار. قال فيه أحمد الحاوي:
يا صرم حالي صرم عود المناشير
على الذي ماله في الدار عوده
وعن رجالٍ قال ربعي في البير
يلهيه تربيط الرشا في عضوده
المطلق اللي ما فكر في المقادير
أبو أحمد اللي سعد عين تروده
هكذا رحل الشهيد عوضة بن أحمد، كما عاش، كريمًا، حاضرًا، وفيًّا، لا يتأخر حين يُنادى، ولا يخذل من استجار به.
ارتقى شهيدًا حين مدّ يده للحياة… فارتفعت درجته عند الله، وخلّد اسمه في قلوب الناس، وسجّل تاريخه في ذاكرة بيوت الحجر.